مخاوف أوروبا الأمنية وسط حالة عدم اليقين عبر الأطلسي

europe's-security-concerns-amid-trans-atlantic-uncertainty

مع تزايد الشكوك عبر المحيط الأطلسي، تواجه أوروبا حقبة جديدة من التحديات الأمنية. فقد أثار المناخ السياسي الأخير في الولايات المتحدة، لا سيما منذ الحملة الرئاسية لدونالد ترامب في عام 2016، شكوكًا حول ثبات التزامات الولايات المتحدة تجاه حلف الناتو. وينبع هذا التخوف من تلميح ترامب إلى أن الولايات المتحدة قد لا تدافع عن دول الناتو إذا ما تعرضت للهجوم، مما يشير إلى تحول محتمل في التحالف العريق عبر الأطلسي.

وقد كان لخطاب ترامب “أمريكا أولاً” صدى عميق لدى مؤيديه، مما دفع بمستقبل حلف الناتو إلى صدارة الخطاب الدولي. وردًا على ذلك، أدرك القادة الأوروبيون ضرورة أن يتكيف الحلف مع مشهد القرن الحادي والعشرين. ويعني هذا التطور أن أوروبا يجب أن تتحمل مسؤولية أكبر عن دفاعها، وهو إدراك شكّل بشكل كبير النظرة الاستراتيجية للقارة على مدى السنوات الثماني الماضية.

كانت دعوة أوروبا للاستيقاظ خلال رئاسة ترامب هي إدراكها أن موثوقية الدعم العسكري الأمريكي لم تعد مضمونة. وقد تم التأكيد على هذا الإدراك من خلال الأعمال العدوانية التي قامت بها روسيا، بما في ذلك غزو أوكرانيا، الأمر الذي سلط الضوء على التهديد المباشر على الحدود الشرقية لأوروبا. وبالتزامن مع ذلك، ركزت الولايات المتحدة بشكل متزايد على التحديات الاستراتيجية التي يشكلها توسع الصين في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، فضلاً عن المخاوف المتعلقة بإيران وكوريا الشمالية.

وفي ضوء هذه التطورات، أكد منسق السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل مؤخرًا على ضرورة أن تعزز أوروبا تدابيرها الأمنية الخاصة بها. وأشار إلى حتمية تحول الولايات المتحدة إلى آسيا، بغض النظر عن نتائج الانتخابات المستقبلية، مؤكداً أن على أوروبا بذل المزيد من الجهود لضمان أمنها.

لأكثر من سبعة عقود، اعتمدت الدول الأوروبية بشكل كبير على قيادة الولايات المتحدة داخل حلف الناتو، مستفيدة من قدراتها العسكرية النووية والتقليدية الهائلة. ومع ذلك، ومع تباين المصالح بين الولايات المتحدة وأوروبا، هناك حاجة ملحة لأن تضطلع أوروبا بدور أكبر في تمويل وقيادة الحلف الذي يضم 32 دولة. ويتفق الخبراء الذين يتوقعون هذا التحول مع الخبراء الذين يتوقعون حلف ناتو تظل فيه الولايات المتحدة جزءًا من الحلف، ولكنها لم تعد القائد الذي لا غنى عنه.

تعود أصول حلف الناتو إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث وقّع الأعضاء المؤسسون على معاهدة شمال الأطلسي في عام 1949 لإنشاء آلية دفاعية منسقة ضد العدوان السوفيتي. تاريخيًا، لعبت الولايات المتحدة دورًا محوريًا، حيث بلغت نفقاتها العسكرية ضعف نفقات جميع أعضاء الناتو الآخرين مجتمعين. ومع ذلك، فإن التطورات السياسية الأخيرة، بما في ذلك ترشيح ترامب لـ “جي دي فانس” كنائب له، والذي يعارض الدعم الأمريكي لأوكرانيا، تسلط الضوء على التوقعات المتزايدة بأن تعزز أوروبا قدراتها الدفاعية.

وقد بدأ الاتحاد الأوروبي بالفعل في معالجة هذه المخاوف من خلال التخطيط لاستثمارات كبيرة لتعزيز صناعته الدفاعية. ويشمل ذلك مبادرات لتبسيط مشتريات الأسلحة وتعزيز الإنتاج المحلي، مما يقلل من الاعتماد على الإمدادات العسكرية الأمريكية. وقد كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من أشد المدافعين عن سعي الدول الأوروبية إلى تحقيق قدر أكبر من الاستقلالية في المسائل الدفاعية.

وعلاوة على ذلك، يجب على حلف الناتو أن يتكيف ليس فقط لمواجهة التهديدات التقليدية الناجمة عن العدوان الروسي ولكن أيضًا التحديات الناشئة التي تشكلها إيران والصين وكوريا الشمالية والحرب الإلكترونية والتدخل الأجنبي في الانتخابات. ويتطلب ذلك من الدول الأوروبية تعزيز قدراتها العسكرية، بما في ذلك زيادة عدد القوات، وتحديث المعدات مثل الدبابات والطائرات المقاتلة، وتحسين دفاعها ضد التهديدات التكنولوجية.

ومن النماذج البارزة للدفاع القائم على الاعتماد على الذات داخل حلف شمال الأطلسي (الناتو) النموذج الذي يمكن رؤيته في أحدث أعضائه، فنلندا والسويد. فقد طورت هاتان الدولتان غير المنحازتين تاريخيًا استراتيجيات دفاعية قوية لمواجهة التهديدات الروسية بشكل مستقل، حيث قامتا بتجهيز جيشيهما بقدرات شاملة. وهذا يتناقض مع دول الناتو الأخرى التي تعتمد تقليديًا على قيادة الولايات المتحدة ومواردها.

ويؤكد المشهد السياسي الأخير في الولايات المتحدة على ضرورة أن تقف أوروبا بمفردها. فقد كشف التأخير في المساعدات العسكرية الأمريكية لأوكرانيا، بسبب الخلافات السياسية الداخلية، مخاطر الاعتماد المفرط على الدعم الأمريكي. وبينما تخوض أوروبا غمار هذه البيئة الأمنية المعقدة، أصبح إدراك أنه لم يعد بإمكانها الاعتماد فقط على الحماية الأمريكية واضحًا بشكل صارخ.

تمر أوروبا الآن بمنعطف محوري، حيث تعيد تقييم استراتيجياتها الأمنية في مواجهة حالة عدم اليقين عبر المحيط الأطلسي. ويتعين على القارة تعزيز قدراتها الدفاعية، والاضطلاع بدور قيادي أكبر داخل حلف الناتو، والاستعداد لمستقبل يتزايد فيه اعتماد أمنها على نفسها. وتؤكد الديناميات المتغيرة على تحول أوسع نطاقًا نحو وضع دفاعي أوروبي أكثر توازنًا واستقلالية.